الأحد، 20 يناير 2013

سراديب الموتى في باريس Catacombs Of Paris


سراديب الموتى في باريس
Catacombs Of Paris




قد لا يختلف اثنان في أن باريس مدينة رائعة الجمال ... لكن ما لا يعلمه أغلب الناس ، هو أن تحت هذه المدينة الكبيرة التي طبقت شهرتها الآفاق ، وأسفل صروحها العظيمة كبرج إيفل واللوفر وبوابة النصر الشهيرة ، توجد متاهة عظيمة من الإنفاق المظلمة التي حفرتها سواعد آلاف العمال الكادحين عبر القرون حتى توسعت لتصبح عالماً آخر لا يمت بصلة لباريس النور والجمال ... عالم سري مخيف تحرسه ملايين الجماجم وتعطر أجواءه رائحة  الموت الثقيلة ... تعال معنا عزيزي القارئ في رحلة قصيرة لنتعرف على سراديب الموت الباريسية .
ربما تكون الصورة المطبوعة في ذهن أغلب الناس عن باريس تتمثل بالشوارع الصاخبة التي تتناثر المقاهي على جنباتها ، والقصور التاريخية ذات الحدائق الغناء ، والمتاحف والمسارح والمعارض الفنية وضفاف السين الجميلة ... الخ ، ولا شك في أن باريس تزخر بالكثير من هذه الأمور ، فهي مدينة عريقة تواجد البشر فيها منذ أقدم العصور ، وعثر المنقبون فيها على آثار يعود تاريخها إلى 6000 عام . لكن الوجه الخفي من باريس والذي يكاد معظم الناس لا يعلمون عنه شيئاً ، هو أنفاقها وسراديبها القديمة ، فأسفل العاصمة الفرنسية هناك 280 كيلومتراً من الأنفاق والدهاليز والردهات والممرات المظلمة التي تشكلت خلال قرون مديدة من الحفر والتنقيب لاستخراج الجبس وصخور الحجر الجيري التي استخدمت في بناء المدينة نفسها .
في باريس القديمة ، والتي كانت تدعى " لوتيتيا " في زمن الرومان ، كانت الصخور تقتلع من مناجم مفتوحة فوق سطح الأرض لكي تستعمل في تشييد المسارح والحمامات والمسابح وغيرها من المرافق والصروح الرومانية .
وبعد رحيل الرومان ، وغلبت قبائل الفرانك على بلاد الغال أو ما يسمى اليوم بفرنسا ، اتخذ الملك كلوفيس الأول باريس عاصمة لمملكته عام 508 ميلادية ، ومنذ ذلك الحين بدأت المدينة الصغيرة تزدهر وتتوسع حتى زحفت أحيائها السكنية لتغطي مقالع الحجارة الغنية بالصخور ، وهو ما جعل عملية الحفر المفتوح مستحيلاً ، مما اضطر عمال المناجم إلى الإنتقال للحفر تحت سطح الأرض . وحين توج الملك فيليب الثاني ملكاً على فرنسا عام 1180 ميلادية ، تصاعدت وتيرة الحفر بتشجيعٍ منه ؛ وذلك لحاجته الماسة للأحجار ومواد البناء الأخرى من أجل تشييد سور كبير يحمي المدينة من هجمات الأعداء ، وهكذا ظهرت أول شبكة للأنفاق الباريسية ثم توسعت باستمرار عبر القرون حتى امتدت تحت أغلب أجزاء العاصمة .


في القرن الثامن عشر شكلت الأنفاق والسراديب العميقة تحت باريس خطراً متزايداً على مباني وقصور المدينة ، فأغلب هذه الأنفاق كانت مهجورة ولم يكن معلوماً على وجه الدقة إلى أين تمتد وأين تنتهي ، وهذا الأمر قاد في النهاية إلى تخسفات مهولة في أجزاء عديدة من باريس ؛ مما أدى إلى تدمير أحياء سكنية برمتها ، وصار الناس مرعبون من أنفاق الموت المختبئة تحت منازلهم ، ولهذا صدرت عام 1777 إرادة ملكية بوقف العمل في الأنفاق وإغلاق وردم أجزاء كبيرة منها .
لكن باريس القرن الثامن عشر لم تكن تعاني من الإنهيارات فقط ، بل كانت مشاكلها متنوعة ومتعددة ، وهذا هو ما قاد في النهاية إلى تفجر الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 . وإحدى مشاكل باريس الكبرى آنذاك كانت جثث وهياكل الموتى ! . فباريس كما ذكرنا سابقا هي مدينة قديمة ، ولمئات السنين كان سكانها يدفنون موتاهم في مقابر متفرقة حول المدينة حتى ضاقت تلك المقابر بموتاها ، فتقرر حل المشكلة في القرن الثاني عشر الميلادي عن طريق افتتاح مقبرة مركزية جديدة اسمها مقبرة القديسين الأبرياء (Saints Innocents Cemetery ) ليدفن فيها الباريسيون جثث موتاهم . لكن بمرور الزمن تحولت المقبرة الجديدة إلى مشكلة بحد ذاتها ، فالدفن فيها كان يتم بطريقة عشوائية غير منظمة ، خصوصاً بالنسبة للفقراء ، حيث كانت جثثهم تكدس فوق بعضها وغالباً ما تدفن من دون كفن ، وكان القساوسة يقومون بإفراغ القبور القديمة بين الحين والآخر وينقلون هياكل الموتى داخلها إلى مقابر جماعية عند أطراف المقبرة ، وبهذا كانوا يفسحون المجال للمزيد من جثث الموتى الجدد .
في الحقيقة كانت مقبرة القديسين الأبرياء أشبه بمقابر تراكمت فوق بعضها حتى وصل ارتفاعها إلى أكثر من عشرة أقدام ، كانت أرضها متخمةً بالجثث ولم يكن هناك متسع لموتى جدد ، لكن مع هذا استمر المسئولون عنها في تكديس المزيد والمزيد ... وبالطبع فإن هذه الجثث المكدسة والمضغوطة داخل مساحات صغيرة أصبحت بالتدريج مصدر إزعاجٍ كبير للسكان ، فسوق المدينة المركزي كان يقع بالقرب من المقبرة ، ورائحة التعفن والتفسخ المنبعثة عن الجثث كانت لا تطاق ، وقد امتدت هذه الروائح الكريهة إلى مياه الشرب المستخرجة من الآبار فلوثتها ، ثم وقعت الطامة الكبرى حين تهدمت بعض الأجزاء من جدران المقبرة نتيجة الضغط المتراكم فوقها فقذفت بالجثث المتفسخة والنتنة إلى الشوارع مما أدى إلى تفشي الأمراض والأوبئة .
أصبحت مقبرة القديسين الأبرياء تشكل مصدر إزعاج كبير في قلب باريس ، لذلك أخذت السلطات تبحث عن حل لهذه المشكلة المتفاقمة ، وقد خطرت لأحد ضباط الشرطة فكرة جيدة عام 1777 ، كان هذا الضابط يدعى أليكساندر لينور ، وقد أقترح نقل جميع الجثث والهياكل العظمية الموجودة في مقبرة القديسين الأبرياء إلى بعض الأجزاء من شبكة الأنفاق الباريسية . وفي عام 1785 وافقت الحكومة على خطته فتقرر نقل المقبرة بأكملها إلى مجموعة من الأنفاق تقع إلى الجنوب من باريس .
نقل الموتى من المقبرة إلى الأنفاق لم تكن مهمة سهلة ، فنحن هنا نتحدث عن جثث وبقايا أكثر من ثلاثين جيلاً من سكان باريس ، أو ما يقارب الستة ملايين من الموتى المكدسين فوق بعضهم . لهذا فإن عملية النقل كانت شاقة استمرت لعدة سنوات .
كانت القبور تنبش أثناء الليل ثم تنقل الهياكل العظمية في عربات سوداء ضخمة إلى الأنفاق لتكدس هناك دونما عناية أو ترتيب ، لكن في عام 1810 قام مهندس يدعى لويس دي توري بالأشراف على عملية ترتيب هذه العظام والجماجم إلى شكلها الحالي الذي يراه السياح عند زيارتهم لسرداب الموتى في باريس (Catacombs of Paris ) .
إذا سافرت يوماً إلى باريس ... عزيزي القارئ ، وإذا كنت من صنف نادر من الناس في عالمنا العربي نطلق عليهم للأسف لقب " المعقدين " ، أولئك الذين يتركون مباهج الحياة ويقضون عطلاتهم وسفراتهم في التجوال داخل المتاحف والمناطق الأثرية والتاريخية ... إذا كنت من هذا النوع ، وإذا كنت لا تعاني رهاب الأماكن الضيقة والمغلقة ، فأنصحك بزيارة سراديب الموتى .
وبعد قطعك للتذكرة ستهبط سلماً طويلاً يتألف من 83 درجة (20 متراً ) سيوصلك إلى رواق معتم يسوده صمتٌ ثقيل لا يقطعه سوى صوت المياه المترقرقة داخل مجرى مائي خفي عن الأعين ، الرواق الطويل سيوصلك إلى مدخل سرداب الموتى حيث ستستقبلك صخرة كتب عليها بالفرنسية : " قف ، هذه إمبراطورية الموت " ! ، وما أن تعبر هذا المدخل حتى تتيقن بأنك قد دخلت فعلاً إمبراطورية الموت ... مملكة هاديس السفلية المظلمة ... حيث العظام والجماجم تحيط بك من كل جانب ، وحيث ترمقك محاجر العيون الفارغة لأناسٍ ماتوا قبل مئات السنين بنظرات جوفاء تلسع برودتها جلدك وقد يخفق لها قلبك – رعباً بالطبع - ... إذا وصلت إلى هناك عزيزي القارئ فدع عنك الخوف وتجول ومتع ناظريك بالديكورات الجميلة المصنوعة من العظام والجماجم ! – وأرجوا أن لا تلعنني في نهاية الزيارة – وتذكر بأن كل واحد من هؤلاء الموتى القابعين في هذه السراديب ، كان يوماً ما إنساناً مشى على أديم الأرض وكانت له حياته وعائلته وأمنياته وأفراحه وأحزانه ... الخ ، رجال أغنياء وفقراء ساوى بينهم الموت ، نساء حسناوات كن يوماً ما محط الأنظار ومهوى الأفئدة ... أناسٌ كانوا مثلي ومثلك وانتهى بهم المطاف كقطعة ديكور في مقبرة جماعية ! ... انها سخرية الأقدار ... لكن هل نعلم أنا وأنت إلى أين ستنتهي جماجمنا بعد مئات السنين ؟ .
سراديب موتى باريس تمتد لـ 1.7 كيلومتر ، وهناك بوابات قديمة صدئة تخفي وراءها أقساماً أخرى غير مسموح للسياح بالتجول داخلها .
هناك قصص عديدة حول وجود الأشباح في هذه السراديب والأنفاق المظلمة ، حتى أن عشاق قصص الأشباح صنفوا المكان ضمن أشهر عشرة أماكن مسكونة حول العالم .
العديد من الزوار قالوا بأنهم أحسوا بنسمة هواء باردة تلامس أجسادهم ، وبعضهم شعروا بأن شخصاً ما يمشي خلفهم ويلاحقهم ، وبعضهم سمع أصوات خفية تهمس في آذانهم ، ولا عجب عزيزي القارئ في ذلك ، فإضافة إلى ملايين الهياكل العظمية المكدسة في هذه السراديب ، هناك أيضا أمور فظيعة حدثت داخلها ، ففي عام 1871 قام عدد من اليساريين الفرنسيين بقتل مجموعة من أنصار النظام الملكي داخل أحد هذه السراديب ، كما إن المقاومة الفرنسية والجنود النازيين خاضوا جولات من القتال والمطاردات الدموية داخل هذه الأنفاق خلال احتلال الألمان لباريس في الحرب العالمية الثانية .


مزرعة الجثث في جونز تاون Corpses farm in Jonestown


مزرعة الجثث في جونز تاون
Corpses farm in Jonestown


الثامن عشر من نوفمبر من عام 1978 ميلادي ، كان الأمريكيون على موعدٍ مع فاجعةٍ جعلت العالم بأكمله يقف مشدوهاً غير مصدّق ... لقد قام نحو 900 شخصٍ بالإنتحار الجماعي مع بعضهم البعض في مكان و زمان واحد ، و ذلك في مزرعة - جونز تاون – ( Jonestown ) ، التي كانت مركزاً لطائفةٍ دينيةٍ غريبة الأطوار عرفت باسم - معبد الشّعب – ( Peoples Temple ) و كانت المرّة الوحيدة في التاريخ التي يُغتال فيها سيناتور أمريكي أثناء تأديته مهامه الرسمية .
لقد كانت تلك الحادثة تعتبر لوقت طويل أكبر كارثة في الأرواح في الولايات المتّحدة ( حتّى جاءت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001 ) .
كيف حدث ذلك و لماذا ؟ لنتعرّف في هذا المقال على خبايا تلك الحادثة و تداعياتها ...


نعود بالزمن إلى الوراء ، بالضبط إلى عام 1956 عندما تأسست الطائفة الدينية المسمّاة " معبد الشعب " على يد ( جيم جونز ) ، و هو شخصٌ غارقٌ في الأحلام و الأوهام و المثاليات ، لقد آمن هذا الأخير بمبادئ الشيوعية و مثلها العليا ، حيث يكون المجتمع الشيوعي الذي لا يفرّق بين عرقٍ أو لون ، حيث تعيش جميع الأعراق و الطوائف في وفاق تامّ في ظلّ العمل من أجل المصلحة العامّة و إيثار الغير على النّفس .
لقد كانت أعوام الستّينات و السبعينات مسرحاً لدعاة التحرر و الإنعتاق من كل دينٍ أو ضابط ، مما أدّى لظهور عشرات الطوائف الدينية الجديدة ، كان معظم أعضاء هذه الحركات الدينية الجديدة من المراهقين و الشباب البيض من الطبقات الوسطى ذوي المستوى التعليمي الجيّد نسبياً ، و لكن كان يغلب عليهم الفراغ الروحي و العاطفي الذي جعلهم يبحثون عن إشباعه بطرقٍ غير مألوفةٍ و بتشكيل طوائف غريبة عجيبة ، لقد كانت الفرصة سانحة للدجّالين و الكذّابين لكيّ يستغلّوا هذا الضعف لصالحهم و يستقطبوا أتباعاً كثيرين ... و كان صاحبنا ( جيم جونز ) في الموعد ، حيث بدأ الترويج لأفكاره في أوساط جماعةٍ مسيحيةٍ تدعى " الخمسينية " ( Pentecostalism ) ، التي كان معظم أعضائها من السود الكادحين ، بالإضافة إلى مجموعةٍ من البيض أغلبهم من كبار السنّ ، إضافةً إلى بضعة أشخاصٍ مثقّفين ذوي مستوى تعليمي عالي جلبهم الفراغ الروحي إلى هنا ، لاقت أفكار ( جونز ) المثالية رواجاً بين أعضاء جماعة " الخمسينية " و بدأ يستقطب أتباعاً ، لقد كان يدعو إلى نبذ العنصرية و التفرقة في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تنضح بالكراهية ضد السود ، لقد كان يدعو إلى اندماج السود و البيض في مجتمعٍ واحد و تعايشهم بسلام ، في الوقت الذي كان الرئيس الأمريكي يخطب طالباً عزل السود عن البيض في المدارس و الجامعات و الأحياء السكنية بل و حتّى المواصلات العامّة ... لقد كان (جيم جونز) في بداياته كالحمل الوديع و داعية السلام و الخير ، لقد ساعد أتباعه في الحصول على عمل و ساعد الفقراء و المحتاجين منهم ، و لكن سرعان ما بدء يطالبهم بالإنضباط و الولاء الأعمى له ، و عدم مخالفة أوامره و تعاليمه ( و كان له ما أراد ) .
في عام 1965 ، انتقل برفقة 100 من أتباعه إلى شمال كاليفورنيا ، و بدأت هذه الجماعة في التكاثر و التزايد و أنشأت المزيد من دور التعبّد التي يجتمع فيها أعضاء هذه الطائفة ، و تمّ تأسيس مركزٍ رسميٍ في مدينة " سان فرانسيسكو " .
خلف الصورة التي حاول ( جيم جونز ) ترويجها للرأي العامّ عن نفسه ، على أنّه الزعيم المحبوب و داعية الحبّ و السلام و صديق الفقراء و المساكين ، كان يختبأ رجلٌ مضطربٌ نفسياً يتراءى له أنّه المسيح بشحمه و لحمه ، تارةً يدّعي أنهّ فلاديمير لينين ، و تارةً أخرى أنّه نبيّ صدّيق ، حتّى أنه زعم في أواخر أيّامه أنّه هو " الله " نفسه قد نزل على هيئة بشر !!!
لقد أضحى مع مرور الوقت المعبود الأوحد لأتباعه الذين لا يعصون له أمراً و لا يناقشون له طلباً ، لقد رأوا فيه مخلّصهم من " الكوارث " المزعومة التي تنبّأ بها ( جونز ) ، كأن تحدث حرب نووية تقضي على جميع سكّان الأرض أو طوفان عظيم يأتي على الأخضر و اليابس و طبعاً الناجي الوحيد من هذه الكوارث هم أتباع هذا الرجل المعتوه كما وعدهم .
في الكثير من خطبه كان يهاجم الرأسمالية و التفرقة العنصرية ، و لكن في غالب الأحيان كان يركّز على ما يسمّيهم " الأعداء " المتربّصين به و بأتباعه و خطرهم الداهم ، و هم الحكومة و الشرطة و عامّة الناس و الصحف و المجلات ، أو باختصار " الجميع " .
دفع هذا الرعب و الخوف المفتعل إلى هجرة أعضاء الطائفة من أمريكا الشمالية بأكملها ، متوجّهين نحو غابة معزولة تقع في أمريكا الجنوبية و بالضبط في شمال دولة " غايانا " (  Guyana) ، حيث أنشئوا هناك مستوطنة أسموها جونز تاون أي " مدينة جونز " تيمّناً بزعيمهم ( جيم جونز ) ، و بدأ الأتباع بالتدفّق إلى ذلك المكان سعياً وراء الإنعزال و ممارسة طقوسهم بكلّ حرّية ، و فراراً من إزعاج الحكومة الأمريكية و تحرشات المواطنين .
لقد كان يُفترض بهذه المستوطنة أن تكون " المدينة المثالية " أو " جنّة الله على أرضه " كما يسمّونها ، و لكن كان كلّ من يصل إلى هناك يصاب بإحباطٍ شديد و صدمةٍ كبيرة ؛ لأنه لم يجد ما كان يتوقّعه ، لقد كانت البيوت الخشبية الصغيرة التي تمّ بنائها هناك لا تكفي لاستيعاب العدد الكبير من الوافدين مما أدّى إلى تكدّسها لدرجة أنه كان ينام عشرات الأشخاص في غرفة ضيّقة لا تسع أكثر من اثنين ، كما أن الفصل بين الجنسين كان مطبّقاً هناك لذلك كان يجبر الأزواج على الافتراق و كلٌ منهم ينام على حدة ... الحرارة و الرطوبة الكبيرة كانتا لا تُحتملان ؛ مما أدّى لإصابة الكثيرين بأمراض خطيرة ، كما أن معظمهم كانوا يُجبرون على العمل الشاقّ في الحرارة الشديد أحياناً لـ16 ساعة في اليوم دون انقطاع .
في المستوطنة ، كان أعضاء الجماعة مجبرين على الاستماع لثرثرة ( جيم جونز ) على مكبّرات الصوت المنصبة في كل مكان حتّى أنّه كان يغنّي بأعلى صوته في كبد الليل و الناس نيام !!
لقد كانت الظروف كارثيةً بالفعل ، مما أدّى بالبعض إلى الرغبة بمغادرة ذلك المكان ؛ و لكن بما أن المستوطنة كانت معزولة و محاطةً بأدغالٍ لا نهاية لها ، فكان يتعيّن على الراغبين في المغادرة طلب الإذن من ( جونز ) لكي يرشدهم إلى طريق الخروج ، و لكنّه كان يعتبرهم ملكه أي عبيده و لا يجوز لهم الفرار من طاعته و خدمته و أضحت تلك المستوطنة كسجنٍ بدون قضبان .
وصل أمر هذه المستوطنة و ظروفها المزرية إلى نائب الكونغرس الأمريكي ليو رايان ( Leo Ryan ) الذي قرر الذهاب إلى هناك و التحقق بنفسه مما يجري ، و اصطحب معه فريقٌ من المراسلين الصحفيين و مجموعة من أقارب الفارّين إلى تلك المستوطنة ... في الوهلة الأولى ، بدا لـ ( ليو رايان ) أن كل شيء يسير على ما يرام و أنه لا شيء يدعو للقلق ، و لكن في تلك الليلة و أثناء طقس تعبّدي يتخللّه رقص و غناء هستيري ، تسلّم أحد الصحفيين المرافقين للسيناتور ( ليو ) ورقة صغيرة مكتوب عليها أسماء من يريدون المغادرة و الذين كانوا يكتمون رغبتهم خوفاً من غضب ( جونز ) ، و هنا اتّضح لهذا الأخير أنه فعلاً هنالك أشخاصٌ محتجزون هنا رغماً عن إرادتهم .
في اليوم الموالي 18 نوفمبر 1978 ، أعلن السيناتور ( ليو رايان ) نيّته في اصطحاب الراغبين في المغادرة نحو الولايات المتحدة ، و لكن لم يستجب سوى بضعة أشخاص ، و امتنع البقيّة خوفاً من ردّة فعل زعيمهم ( جيم جونز ) ... صعد الراغبين في المغادرة على متن شاحنةٍ جاء بها السيناتور ، و الذي بقي في المؤخّرة ، و الباب الخلفي للشاحنة مفتوح ؛ و ذلك حتّى يتأكّد من أنه لا يوجد شخص آخر يريد المغادرة أيضاً ، بعدما أقلعت الشاحنة و على حين غرّة تفاجأ السيناتور بأحد أتباع الجماعة يقفز عليه من حيث لم يره و يحاول ذبحه بساطور ضخم ، و لكنّه يفشل في الوصول إلى الرقبة و يقع متدحرجاً على الطريق ، عندما وصل السيناتور و مرافقوه إلى المطار وجدوا أن جميع الطائرات قد أقلعت فقبعوا ينتظرون ريثما تصل طائرةٌ جديدة ، و في هذه الأثناء توقّفت سيارة رباعية الدفع و ترجّل منها أشخاصٌ مسلّحون فتحوا النار على الشاحنة ، فقُتل خمسة أشخاص على الفور بينهم السيناتور ( رايان ) .


في هذه الأثناء ، دعا ( جيم جونز ) جميع أتباعه إلى لقاءٍ عاجلٍ في المعبد ، حيث خطب فيهم قائلاً :" تيّقّنوا يا أبنائي و أحبّائي أن العساكر الأمريكية قادمة لا محالة ، و عن قريب سترون الطائرات الأمريكية تقصف ضيعتنا الآمنة و تقتل حتّى صغارنا و أطفالنا " ، و أضاف : " الحلّ الوحيد أمامنا هو اللجوء إلى عملّ بطوليّ ثوري لم يُشهد له سابقٌ في التاريخ " ، و طبعاً هذا العمل " البطولي " هو الانتحار الجماعي . حاولت إحدى السيدات معارضة الفكرة و لكنّها تلقّت هجوماً شديداً من البقيّة الذين يثقون في ( جونز ) بشكل أعمى .
عندما وصل خبر مقتل السيناتور إلى مسامع ( جونز ) ، أصبح أكثر إلحاحاً و عجالة من ذي قبل و صرخ قائلاً :" أتعلمون ما الذي ينتظركم عند نزول المظليين على أرضنا ؟ سوف يعذّبونكم عذاباَ شديداً ، سيعذّبون أطفالنا الصغار أمام أعيننا و سيسلخون عجائزنا أحياءاً و نحن نسمع صرخاتهم و تأوّهاتهم ... لن نسمح بحدوث هذا " .
جُلبت أوعيةٌ كبيرة ، و مُلئت بخليطٍ قاتلٍ من سمّ السيانيد و حامض الفاليوم ، ثمّ وُضعت عند مدخل المعبد ، بدأ تسميم الأطفال الصغار أوّلاً ، تمّ استعمال الحقن لحقن الخليط السامّ في أجسادهم الغضّة الطريّة ، ثم جاء الدور على الأمهات التي انتحرن بنفس الطريقة التي قُتل بها صغارهن ، ثم توالى الدور على البقيّة و إن فكّر أحدهم في مخالفة الأوامر فسيجد المسدسات و السواطير موجّهةً صوبه ... استغرقت الوفاة بهذه الطريقة نحو خمسة دقائق ، خمسة دقائق من الألم القاتل و التلويّ أرضاً و العذاب الشديد .
في ذلك اليوم المشئوم من شهر نوفمبر 1978 ، انتحر 912 شخصاً عن طريق شرب السمّ ، 276 منهم كانوا من الأطفال الصغار ، انتحر ( جيم جونز ) عن طريق رصاصة في الرأس ... بضعة أشخاص فقط كُتب لهم النجاة من هذه المأساة ليرووا لنا تفاصيلها المؤلمة و المرعبة في آن واح د  لقد نجا بعضهم عبر الهرب نحو الأدغال و البعض الآخر عبر الاختباء في أرجاء المستوطنة ، و لكن جميعهم أجمعوا أنه قد كُتبت لهم حياة جديدة .
رغم أن هذه المأساة وقعت منذ أكثر من ثلاثين سنة إلا أنها بقيت محفورة في ذاكرة الأمريكيين ، و في ذاكرة العالم بأسره لتكون مثالاً حيّاً عن جنون الإنسان و خطورة الفراغ الروحي الذين إذا اجتمعا فلن تكون النتيجة أقلّ من هذه الكارثة .
وفي ما يلي ، فلم وثائقي مفصل لهذه الحادثة ... خلفياتها ونتائجها :


أحمد ديدات ... الرجل صاحب المهمة Ahmed Deedat … Man With A Mission


أحمد ديدات ... الرجل صاحب المهمة
Ahmed Deedat … Man With A Mission



بسم الله الرحمن الرحيم ... أولاً أود لفت عناية متابعي وقراء مدونة العمايرة للمعلومات إلى أن هذا الموضوع طويلٌ قليلاً ولكنه يستحق المتابعة ... كونه يتحدث عن أعظم داعية إسلامي في القرنين العشرين والواحد والعشرين والتي لم تنجب مثله بطن أم .
إنه الداعية الإسلامي الذي نذر نفسه ليكون سفيراً للإسلام حول العالم , وجعل هدفه نشر الهداية والتعريف برسالة الإسلام العالمية وتوضيح صورته الحقيقية التي يحاول الغرب تشويهها .
إنه الرجل الذي أحدث دويّاً هائلاً في الغرب بمناظراته الشهيرة التي بدأ إذاعتَها على العالم كله منذ منتصف الثمانينيات ، والتي تميزت بالسهولة واليسر والمجادلة بالتي هي أحسن ، وبعدم تسفيه الآخرين ، وبإقامة جسور من الحوار والتبادل الثقافي والمعرفي البعيد عن التعصب والتطرف هذا هو المناظر الأعظم الشيخ / أحمد ديدات .
هو الشيخ الجليل / أحمد حسين ديدات ولد الشيخ أحمد ديدات في أول يوليو 1918م في بلدة تادكيشنار بإقليم سوارات الهندية , وأبويه مسلمان ، وكان أبوه يعمل بالزراعة ومن ثم قام بتغيير مجال عمله ليصبح خياطاً , ثم قام بالهجرة إلى جنوب أفريقيا مباشرةً بعد ولادة إبنه أحمد الذي صار شيخاً للإسلام , لحق الشيخ أحمد ديدات بأبيه عام 1927م بسبب صعوبة وجود فرص الدراسة في الهند , وتوفيت والدته بعد هجرته بشهور قليلة .
تربى الشيخ على مذهب أهل السنة منذ نعومة أظفاره , فلقد التحق الشيخ أحمد بالدراسة بالمركز الإسلامي في ديربان لتعلم القرآن الكريم وعلومه وأحكام الشريعة الإسلامية ، وفي عام 1934 م أكمل الشيخ المرحلة السادسة الابتدائية ومن ثم قرر أن يعمل لمساعدة والده ، فعمل في دكان لبيع الملح ، ثمَّ عمل في متاجر كثيرة، ثمَّ عمل أحمد ديدات في عام 1936 في متجرٍ يملكه مسلم ، وكان بالقرب من معهد تعليمٍ نصرانيٍّ على ساحل كوازولو ناتال الشمالي ، وقد أشعلت الإهانات المستمرَّة ضدَّ الإسلام من قبل المنصِّرين المتمرَّنين بالمعهد في نفسه الرغبة في إبطال ادعاءاتهم .
حيث توافق ذلك مع حصول الشيخ ديدات على كتاب إظهار الحق لمؤلف هندي جاور المدينة و دفن بها ، هو رحمة الله الهندي ، وهذا الكتاب هو الذي فتح آفاق أحمد ديدات للرد على شبهات النصارى و بداية منهج حواري مع أهل الكتاب و تأصيله تأصيلاً شرعياً يوافق المنهج القرآني في دعوة أهل الكتاب إلى الحوار و طلب البرهان و الحجة من كتبهم المحرفة .
فكان لفكرة إقامة المناظرات أثرٌ عميقٌ عند أحمد ديدات ، ليترك لنا هذا المنهج الدعوى المبارك و الذي كان نتيجته أن أسلم على يديه آلاف من النصارى من مختلف أنحاء العالم و البعض منهم الآن دعاة إلى الاسلام .
امتلك الشيخ ديدات أوَّل كتاب إنجيلٍ له ، وقام بدراسته جيداً وبدأ يقيم المناظرات والمناقشات مع المنصِّرين المتمرِّنين بالمعهد القريب ، ولم يتوقَّف - بعدما كانوا ينسحبون سريعاً من مواجهة براهينه القاطعة عند ذلك - بل تعدَّاه لدعوة معلِّميهم وكذلك القساوسة في المناطق المحيطة .
في بداية الخمسينيات أصدر كتيبه الأول بعنوان ( ماذا يقول الكتاب المقدس عن محمد صلى الله عليه وسلم ) ، ثم نشر بعد ذلك أحد أبرز كتيباته ( هل الكتاب المقدس كلام الله ؟ ) .
وفي عام 1959 م توقف أحمد ديدات عن مواصلة أعماله ؛ حتى يتسنى له التفرغ للمهمة التي نذر لها حياته فيما بعد , وفي سعيه الحثيث لأداء هذا الدور العظيم زار العديد من دول العالم ، واشتهر بمناظراته التي عقدها مع كبار رجال الدين المسيحي مثل ( كلارك , جيمي سواجارت , أنيس شروش ) .
وقد كانت مناظرته الأولى والشهيرة عام 1977م في قاعة ألبرت هول ( الملكية بلندن ) ، ثم بعد عام بمناظرة القس الأميركي المليونير "جيمي سويجارت " التي سجلت على أشرطة فيديو ونشرت حول العالم , ثم جاءت مناظرته الشهيرة " هل صُلب المسيح ؟ " التي ناظر فيها بنجاح الأسقف جوسيه ماكدويل في ديربان عام 1981م .
وفي عام 1988م ناظر القس العربي " أنيس شروش " في قاعة بيرمنجهام بلندن , ودعا رمز أوربا الديني بابا الفاتيكان لمناظرة بينهما ، إلا أن الأخير رفض ذلك ، برغم تشدقهم بالحوار والديمقراطية وحرية الرأي .
كان العضو المؤسِّس الأوَّل للمركز الدوليِّ لنشر الإسلام " معهد السلام لتخريج الدعاة " -  IPCI - ،بمدينة ديربان بجنوب إفريقيا والذي أصبح رئيساً له .
سافر عام 1949 م إلى باكستان وأمضى هناك 3 سنوات ، وتزوج الشيخ أحمد ديدات وأنجب ولدين وبنتاً ، حيث كان يعمل في مصنع للنسيج ، وبعدها كان لابد من العودة إلى جنوب افريقيا وإلا فإنه سيفقد تصريح الإقامة بها , وعندما عاد إلى ديربان أصبح مديرًا لنفس المصنع الذي سبق أن تركه قبل سفره ومكث حتى عام 1956م يعد نفسه للدعوة إلى الدين الحق .
نشر الكثير من نجاحاته في المناظرات مع القساوسة حول الإنجيل ،  مُنح أحمد ديدات جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1986 م و أعطي درجة " أستاذ " .
يعتبر الداعية أحمد ديدات أحد أكثر المتعمقين في نصوص الأناجيل المختلفة فهو عالم مسلم في الأنجيل المسيحي . أُطلِقت العديد من الألقاب على الشيخ أحمد ، منها : " قاهر المنصِّرين " ، و " الرجل ذو المهمَّة " و" فارس الدعوة " . كما علَّم ديدات العديد من التلاميذ الذين ساروا على دربه من أبرزهم الدكتور زاكر نايك .
أسس معهد السلام لتخريج الدعاة ، وفي عام 1996م بعد عودة الشيخ من أستراليا بعد رحلة دعوية مذهلة أصيب الفارس الضرغام بمرضه الذي أقعده طريح الفراش طيلة تسع سنوات .
حيث أصيب بجلطة في الشريان القاعدي في شهر ابريل عام 1996م ؛ بسبب عدة عوامل على رأسها أنه مريض بالسكر منذ فترة طويلة ، أجهد خلالها نفسه في الدعوة كعادته , وبعد عودته من استراليا في رحلة دعوية أصيب بجلطة في الدماغ .
وفي صباح يوم الاثنين الثامن من أغسطس 2005م الموافق الثالث من رجب 1426هـ فقدت الأمة الإسلامية الداعية الإسلامي الكبير الشيخ المجاهد / أحمد ديدات رحمه الله وتغمده بواسع رحمته .