سراديب الموتى في باريس
Catacombs
Of Paris
قد لا
يختلف اثنان في أن باريس مدينة رائعة الجمال ... لكن ما لا يعلمه أغلب الناس ، هو
أن تحت هذه المدينة الكبيرة التي طبقت شهرتها الآفاق ، وأسفل صروحها العظيمة كبرج إيفل
واللوفر وبوابة النصر الشهيرة ، توجد متاهة عظيمة من الإنفاق المظلمة التي حفرتها
سواعد آلاف العمال الكادحين عبر القرون حتى توسعت لتصبح عالماً آخر لا يمت بصلة
لباريس النور والجمال ... عالم سري مخيف تحرسه ملايين الجماجم وتعطر أجواءه
رائحة الموت الثقيلة ... تعال معنا عزيزي القارئ في رحلة قصيرة لنتعرف على
سراديب الموت الباريسية .
ربما تكون
الصورة المطبوعة في ذهن أغلب الناس عن باريس تتمثل بالشوارع الصاخبة التي تتناثر
المقاهي على جنباتها ، والقصور التاريخية ذات الحدائق الغناء ، والمتاحف والمسارح
والمعارض الفنية وضفاف السين الجميلة ... الخ ، ولا شك في أن باريس تزخر بالكثير
من هذه الأمور ، فهي مدينة عريقة تواجد البشر فيها منذ أقدم العصور ، وعثر
المنقبون فيها على آثار يعود تاريخها إلى 6000 عام . لكن الوجه الخفي من باريس
والذي يكاد معظم الناس لا يعلمون عنه شيئاً ، هو أنفاقها وسراديبها القديمة ،
فأسفل العاصمة الفرنسية هناك 280 كيلومتراً من الأنفاق
والدهاليز والردهات والممرات المظلمة التي تشكلت خلال قرون مديدة من الحفر
والتنقيب لاستخراج الجبس وصخور الحجر الجيري التي استخدمت في بناء المدينة نفسها .
في باريس
القديمة ، والتي كانت تدعى " لوتيتيا " في زمن الرومان ، كانت الصخور
تقتلع من مناجم مفتوحة فوق سطح الأرض لكي تستعمل في تشييد المسارح والحمامات
والمسابح وغيرها من المرافق والصروح الرومانية .
وبعد رحيل
الرومان ، وغلبت قبائل الفرانك على بلاد الغال أو ما يسمى اليوم بفرنسا ، اتخذ
الملك كلوفيس الأول باريس عاصمة لمملكته عام 508 ميلادية ، ومنذ ذلك الحين بدأت
المدينة الصغيرة تزدهر وتتوسع حتى زحفت أحيائها السكنية لتغطي مقالع الحجارة
الغنية بالصخور ، وهو ما جعل عملية الحفر المفتوح مستحيلاً ، مما اضطر عمال
المناجم إلى الإنتقال للحفر تحت سطح الأرض . وحين توج الملك فيليب الثاني ملكاً
على فرنسا عام 1180 ميلادية ، تصاعدت وتيرة الحفر بتشجيعٍ منه ؛ وذلك لحاجته
الماسة للأحجار ومواد البناء الأخرى من أجل تشييد سور كبير يحمي المدينة من هجمات
الأعداء ، وهكذا ظهرت أول شبكة للأنفاق الباريسية ثم توسعت باستمرار عبر القرون
حتى امتدت تحت أغلب أجزاء العاصمة .
في القرن
الثامن عشر شكلت الأنفاق والسراديب العميقة تحت باريس خطراً متزايداً على مباني
وقصور المدينة ، فأغلب هذه الأنفاق كانت مهجورة ولم يكن معلوماً على وجه الدقة إلى
أين تمتد وأين تنتهي ، وهذا الأمر قاد في النهاية إلى تخسفات مهولة في أجزاء عديدة
من باريس ؛ مما أدى إلى تدمير أحياء سكنية برمتها ، وصار الناس مرعبون من أنفاق
الموت المختبئة تحت منازلهم ، ولهذا صدرت عام 1777 إرادة ملكية بوقف العمل في
الأنفاق وإغلاق وردم أجزاء كبيرة منها .
لكن باريس
القرن الثامن عشر لم تكن تعاني من الإنهيارات فقط ، بل كانت مشاكلها متنوعة
ومتعددة ، وهذا هو ما قاد في النهاية إلى تفجر الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 .
وإحدى مشاكل باريس الكبرى آنذاك كانت جثث وهياكل الموتى ! . فباريس كما ذكرنا
سابقا هي مدينة قديمة ، ولمئات السنين كان سكانها يدفنون موتاهم في مقابر متفرقة
حول المدينة حتى ضاقت تلك المقابر بموتاها ، فتقرر حل المشكلة في القرن الثاني عشر
الميلادي عن طريق افتتاح مقبرة مركزية جديدة اسمها مقبرة القديسين الأبرياء (Saints Innocents Cemetery ) ليدفن فيها الباريسيون جثث موتاهم . لكن بمرور الزمن تحولت
المقبرة الجديدة إلى مشكلة بحد ذاتها ، فالدفن فيها كان يتم بطريقة عشوائية غير
منظمة ، خصوصاً بالنسبة للفقراء ، حيث كانت جثثهم تكدس فوق بعضها وغالباً ما تدفن
من دون كفن ، وكان القساوسة يقومون بإفراغ القبور القديمة بين الحين والآخر
وينقلون هياكل الموتى داخلها إلى مقابر جماعية عند أطراف المقبرة ، وبهذا كانوا
يفسحون المجال للمزيد من جثث الموتى الجدد .
في
الحقيقة كانت مقبرة القديسين الأبرياء أشبه بمقابر تراكمت فوق بعضها حتى وصل
ارتفاعها إلى أكثر من عشرة أقدام ، كانت أرضها متخمةً بالجثث ولم يكن هناك متسع
لموتى جدد ، لكن مع هذا استمر المسئولون عنها في تكديس المزيد والمزيد ... وبالطبع
فإن هذه الجثث المكدسة والمضغوطة داخل مساحات صغيرة أصبحت بالتدريج مصدر إزعاجٍ
كبير للسكان ، فسوق المدينة المركزي كان يقع بالقرب من المقبرة ، ورائحة التعفن
والتفسخ المنبعثة عن الجثث كانت لا تطاق ، وقد امتدت هذه الروائح الكريهة إلى مياه
الشرب المستخرجة من الآبار فلوثتها ، ثم وقعت الطامة الكبرى حين تهدمت بعض الأجزاء
من جدران المقبرة نتيجة الضغط المتراكم فوقها فقذفت بالجثث المتفسخة والنتنة إلى
الشوارع مما أدى إلى تفشي الأمراض والأوبئة .
أصبحت
مقبرة القديسين الأبرياء تشكل مصدر إزعاج كبير في قلب باريس ، لذلك أخذت السلطات
تبحث عن حل لهذه المشكلة المتفاقمة ، وقد خطرت لأحد ضباط الشرطة فكرة جيدة عام
1777 ، كان هذا الضابط يدعى أليكساندر لينور ، وقد أقترح نقل جميع الجثث والهياكل
العظمية الموجودة في مقبرة القديسين الأبرياء إلى بعض الأجزاء من شبكة الأنفاق
الباريسية . وفي عام 1785 وافقت الحكومة على خطته فتقرر نقل المقبرة بأكملها إلى
مجموعة من الأنفاق تقع إلى الجنوب من باريس .
نقل
الموتى من المقبرة إلى الأنفاق لم تكن مهمة سهلة ، فنحن هنا نتحدث عن جثث وبقايا
أكثر من ثلاثين جيلاً من سكان باريس ، أو ما يقارب الستة ملايين من الموتى
المكدسين فوق بعضهم . لهذا فإن عملية النقل كانت شاقة استمرت لعدة سنوات .
كانت
القبور تنبش أثناء الليل ثم تنقل الهياكل العظمية في عربات سوداء ضخمة إلى الأنفاق
لتكدس هناك دونما عناية أو ترتيب ، لكن في عام 1810 قام مهندس يدعى لويس دي توري
بالأشراف على عملية ترتيب هذه العظام والجماجم إلى شكلها الحالي الذي يراه السياح
عند زيارتهم لسرداب الموتى في باريس (Catacombs of Paris ) .
إذا سافرت
يوماً إلى باريس ... عزيزي القارئ ، وإذا كنت من صنف نادر من الناس في عالمنا
العربي نطلق عليهم للأسف لقب " المعقدين " ، أولئك الذين يتركون مباهج
الحياة ويقضون عطلاتهم وسفراتهم في التجوال داخل المتاحف والمناطق الأثرية
والتاريخية ... إذا كنت من هذا النوع ، وإذا كنت لا تعاني رهاب الأماكن الضيقة
والمغلقة ، فأنصحك بزيارة سراديب الموتى .
وبعد قطعك
للتذكرة ستهبط سلماً طويلاً يتألف من 83 درجة (20 متراً ) سيوصلك إلى رواق معتم
يسوده صمتٌ ثقيل لا يقطعه سوى صوت المياه المترقرقة داخل مجرى مائي خفي عن الأعين ،
الرواق الطويل سيوصلك إلى مدخل سرداب الموتى حيث ستستقبلك صخرة كتب عليها
بالفرنسية : " قف ، هذه إمبراطورية الموت " ! ، وما أن تعبر هذا المدخل
حتى تتيقن بأنك قد دخلت فعلاً إمبراطورية الموت ... مملكة هاديس السفلية المظلمة ...
حيث العظام والجماجم تحيط بك من كل جانب ، وحيث ترمقك محاجر العيون الفارغة لأناسٍ
ماتوا قبل مئات السنين بنظرات جوفاء تلسع برودتها جلدك وقد يخفق لها قلبك – رعباً
بالطبع - ... إذا وصلت إلى هناك عزيزي القارئ فدع عنك الخوف وتجول ومتع ناظريك
بالديكورات الجميلة المصنوعة من العظام والجماجم ! – وأرجوا أن لا تلعنني في نهاية
الزيارة – وتذكر بأن كل واحد من هؤلاء الموتى القابعين في هذه السراديب ، كان يوماً
ما إنساناً مشى على أديم الأرض وكانت له حياته وعائلته وأمنياته وأفراحه وأحزانه ...
الخ ، رجال أغنياء وفقراء ساوى بينهم الموت ، نساء حسناوات كن يوماً ما محط
الأنظار ومهوى الأفئدة ... أناسٌ كانوا مثلي ومثلك وانتهى بهم المطاف كقطعة ديكور
في مقبرة جماعية ! ... انها سخرية الأقدار ... لكن هل نعلم أنا وأنت إلى أين ستنتهي
جماجمنا بعد مئات السنين ؟ .
سراديب
موتى باريس تمتد لـ 1.7 كيلومتر ، وهناك بوابات قديمة صدئة تخفي وراءها أقساماً
أخرى غير مسموح للسياح بالتجول داخلها .
هناك قصص
عديدة حول وجود الأشباح في هذه السراديب والأنفاق المظلمة ، حتى أن عشاق قصص
الأشباح صنفوا المكان ضمن أشهر عشرة أماكن مسكونة حول العالم .
العديد من
الزوار قالوا بأنهم أحسوا بنسمة هواء باردة تلامس أجسادهم ، وبعضهم شعروا بأن شخصاً
ما يمشي خلفهم ويلاحقهم ، وبعضهم سمع أصوات خفية تهمس في آذانهم ، ولا عجب عزيزي
القارئ في ذلك ، فإضافة إلى ملايين الهياكل العظمية المكدسة في هذه السراديب ،
هناك أيضا أمور فظيعة حدثت داخلها ، ففي عام 1871 قام عدد من اليساريين الفرنسيين
بقتل مجموعة من أنصار النظام الملكي داخل أحد هذه السراديب ، كما إن المقاومة
الفرنسية والجنود النازيين خاضوا جولات من القتال والمطاردات الدموية داخل هذه
الأنفاق خلال احتلال الألمان لباريس في الحرب العالمية الثانية .